فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بقي هاهنا بحثان:
الأول: قال صاحب الكشاف في انتصاب رزقًا إن جعلته مصدرًا جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله، لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء، ويرزق ثمرات كل شيء واحد، وأن يكون مفعولًا له، وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالًا من الثمرات لتخصيصها بالإضافة، كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة.
الثاني: احتج الأصحاب بقوله: {رّزْقًا مّن لَّدُنَّا} في أن فعل العبد خلق الله تعالى، وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم، لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقًا لله تعالى لما صحت تلك الإضافة، فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم، قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان، فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان، فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود، وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية.
واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى، لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحدًا سوى الله تعالى ولا يرجون أحدًا غير الله تعالى، فيبقى نظرهم منقطعًا عن الخلق متعلقًا بالخالق، وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)}.
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني: عن تلك الشبهة، وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا، فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفًا من زوال نعمة الدنيا، فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم، لا الإقدام على الإيمان، قال صاحب الكشاف: البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها، وإما تضمين بطرت معنى كفرت.
فأما قوله: {فَتِلْكَ مساكنهم لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا} ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يومًا أو ساعة.
وثانيها: يحتمل أن شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلًا وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها، وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه، ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها، فكأن سائلًا أورد السؤال من وجهين الأول: لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد؟ الثاني: لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ فأجاب عن السؤال الأول بقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم، فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة، ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمّهَا رَسُولًا} أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولًا لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني: وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولًا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ومعنى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا} يؤدي ويبلغ، وأجاب عن السؤال الثاني بقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمنًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} فيه وجهان:
أحدهما: من أحببت هدايته.
الثاني: من أحببته لقرابته، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن: نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو هريرة أن النبي قال لعمه أبي طالب «قُل لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِندَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش لأقررت عينيك بها.
وروى مجاهد أنه قال: يا ابن أخي ملة الأشياخ، فنزلت الآية تعني أبا طالب.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} قاله قتادة: يعني العباس.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال مجاهد: يعني بمن قدر له الهدى والضلالة.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} قيل إن هذه الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لنعلم أن قولك حق ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك مخافة أن يتخطفنا العرب من أرضنا يعني بمكة فإنما نحن أكلة رأس العرب ولا طاقة لنا بهم، فأجاب الله عما اعتل به فقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه جعله آمنًا بما طبع النفوس عليه من السكون إليه حتى لا ينفر منه الغزال والذئب والحمام والحدأة.
الثاني: أنه جعله آمنًا بالأمر الوارد من جهته بأمان من دخله ولاذ به، قاله يحيى بن سلام.
يقول كنتم آمنين في حرمي تأكلون وتعبدون غيري أفتخافون إذا عبدتموني وآمنتم بي.
{يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تجمع إليه ثمرات كل أرض وبلد. وحكى مجاهد أن كتابًا وجد عند المقام فيه: إني أنا الله ذو بكة، وضعتها يوم خلقت الشمس والقمر، وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، مبارك لأهلها في الماء واللحم، أول من يحلها أهلها.
{رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا} أي عطاء من عندنا.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: لا يعقلون، قاله الضحاك.
الثاني: لا يتدبرون، قاله ابن شجرة.
قوله: {بَطِرَتْ مَعَيشَتَهَا} والبطر الطغيان بالنعمة. وفيه وجهان:
أحدها: يعني بطرت في معيشتها، قاله الزجاج.
الثاني: أبطرتها معيشتها، قاله الفراء.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلَكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمَّهَا رَسُولًا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: في أوائلها، قاله الحسن.
الثاني: في معظم القرى من سائر الدنيا، حكاه ابن عيسى.
الثالث: أن أم القرى مكة، قاله قتادة. اهـ.

.قال ابن عطية:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}.
أجمع جل المفسرين على أن قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} إنما نزلت في شأن أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة وابن المسيب وغيرهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو يجود بنفسه فقال له: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله» وكان بحضرته عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب يا أبا طالب؟ فقال أبو طالب: يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك، ثم قال أبو طالب: أنا على ملة عبد المطلب والأشياخ، فتفجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج عنه فمات أبو طالب على كفره فنزلت هذه الآية، قال أبو روق: قوله تعالى: {ولكن الله يهدي من يشاء} إشارة إلى العباس، والضمير في قوله: {وقالوا} لقريش، قال ابن عباس والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل وقصد الإخبار بأن العرب تنكر عليهم رفض الأوثان وفراق حكم الجاهلية فتخطفهم من أرضهم، وقوله و{الهدى} معناه على زعمك، وحكى الثعلبي أنه قال له إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفنا العرب فقطعهم الله تعالى بالحجة، أي أليس كون الحرم لكم مما يسرناه وكففنا عنكم الأيدي فيه فكيف بكم لو أسلمتم واتبعتم ديني وشرعي، وروي عن أبي عمرو {نتخطفُ} بضم الفاء، وأمن الحرم هو أن لا يغزى ولا يؤذى فيه أحد، وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} أي تجمع وتجلب، وقرأ نافع وحده {تجبى} بالتاء من فوق، وقرأ الباقون {يجبى} بياء من تحت، ورويت التاء من فوق عن أبي عمرو وأبي جعفر وشيبة بن ناصح، وقوله تعالى: {كل شيء} يريد مما به صلاح حالهم وقوام أمرهم، وليس العموم فيه على الإطلاق، وقرأ أبان بن تغلب {ثُمُرات} بضم الثاء والميم، ثم توعد تعالى قريشًا بضرب المثل بالقرى المهلكة، أي فلا تغتروا بالحرم والأمن والثمرات التي تجبى، فإن الله تعالى يهلك الكفرة على ما سلف في الأمم، و{بطرت} معناه سفهت وأشرت وطغت قاله ابن زيد وغيره، و{معيشتها} نصب على التفسير مثل قوله: {سفه نفسه} [البقرة: 130] وقال الأخفش هو إسقاط حرف الجر أي {بطرت} في {معيشتها} ثم أحالهم على الاعتبار في خراب ديار الأمم المهلكة كحجر ثمود وغيره وباقي الآية بين.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}.
إن كانت الإرادة ب {القرى} المدن التي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ف {أم القرى} مكة، وإن كانت الإرادة {القرى} بالإطلاق في كل زمن فأمها في هذا الموضع أعظمها وأفضلها الذي هو بمثابة مكة في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانت أم القرى كلها أيضًا من حيث هي أول ما خلق من الأرض ومن حيث فيها البيت، ومعنى الآية أن الله تعالى يقيم الحجة على عباده بالرسل فلا يعذب إلا بعد نذارة وبعد أن يتمادى أهل القرى في ظلم وطغيان، والظلم هنا يجمع الكفر والمعاصي والتقصير في الجهاد وبالجملة وضع الباطل موضع الحق. اهـ.